معالجة هجرة الكفاءات
ليس من السهل تحديد مجموعة من الإجراءات لمعالجة هذا النوع من الهجرة التي باتت أنماطها وتأثيراتها المتبادلة تتسم بالتعقيد الكبير، مع تسارع التطور الاقتصادي والتكنولوجي في ظل اتجاهات العولمة، التي تهدف لإلغاء الحدود أمام حركة السلع ورؤوس الأموال والكفاءات العلمية، وإضعاف دور الدولة في رسم سياساتها على ترابها الوطني فيما يخص هذه المكونات. ويجب أن نتذكر أن الكثير من الإجراءات التي اتبعتها الدول النامية لم تفلح في استقطاب كفاءاتها المهاجرة إلا في حدود ضيقة. ولكن هذا لا يعني أن هذه الظاهرة باتت خارج السيطرة، أو لا يمكن تخفيف وتيرتها والاحتفاظ بالكفاءات التي لم تهاجر على أقل تقدير، والعمل على استقطاب الكفاءات المهاجرة على المدى المتوسط والبعيد أو الاستفادة منها في عملية التنمية الاجتماعية- الاقتصادية والتطور التكنولوجي وهي في بلدان المهجر.
ما ينبغي عمله هو رسم سياسة لاستثمار الموارد البشرية، في إطار خطة تنموية محكمة مع الاهتمام بالضمانات والخدمات والحقوق الاجتماعية في إطار تشريعي متطور وشامل يشعر معه المواطنون أنهم يعيشون في مجتمع مدني مركز الجذب فيه الإنسان. وتترجم هذه الأهداف الاجتماعية والسياسية اقتصادياً إلى شبكة من العوامل والإمكانيات التي يجب توفيرها وعلى رأسها التمويل وإنشاء قاعدة صناعية قوية ومواجهة أشكال التبعية الاقتصادية والتكنولوجية. والقيام بتنمية شاملة بمعنى القيام بعملية تغيير هيكلي في البنية الاجتماعية-الاقتصادية-السياسية.( ) نتائج هذا التغيير ستكون لها تأثيرات متبادلة على البنية الأكاديمية والعلمية والمهنية والثقافية للبلاد.
إن نجاح كبح ظاهرة فقدان المعرفة والمهارة والخبرة المهنية يعتمد إلى حد كبير على الإجراءات والمبادرات والحلول المتبناة وذلك لتقدير ومكافأة المثقفين والمهنيين والخبراء التقنيين ذوي التأهيل العالي. مع ذلك فإن مسؤولية البحث عن الحلول للمشاكل المرافقة لهجرة الكفاءات لا تقع على عاتق الدول المرسلة للمهاجرين فقط وإنما تقع أيضاً على عاتق الدول المضيفة لهم. حيث يتعين على الدول التي تسمح بإقامة أصحاب الكفاءات أن تعيد إلى دولهم الأصلية تكاليف تعليمهم ( ) التي أنفقت عليهم على أقل تقدير. وكما حددت ذلك بوضوح المنظمة الدولية الهجرة، فإن من المناسب جداً تساهم القطاعات العامة والخاصة في الدول المستقبلة للمهاجرين في دفع كلفة الموارد البشرية عالمياً كونها المستفيد الأول من الاستثمار في رأس المال البشري.( ) وفيما لو تحقق ذلك، ولو جزئياً، فإنه سيساهم دون شك في تقليل الخسائر المادية الكبيرة التي تتكبدها هذه الدول ويُمكنها من توجيه جزء من هذا التعويض لتطوير كفاءة القوى العاملة الباقية في البلاد والمساهمة في تطوير بدائل ولو جزئياً للكفاءات المهاجرة وتنمية اقتصادياتها.
وقد نجحت بعض الدول الآسيوية، ومنها تايوان وسنغافورة، في استقطاب بعض عقولها المهاجرة بتشجيعها على تأسيس شركات تقنية متطورة داخل الوطن ودعمها مادياً. ونتيجة لذلك تم إنشاء شركات تقنية ناجحة سيطرت على أسواق جنوب شرق آسيا والصين بالعقول التي كانت تعيش في الغرب.( ) ومثل هذا الحل يمكن تطبيقه في العراق، بعد تحقيق الأمن والاستقرار في ضوء بداية تراكم موارد النفط بسبب ارتفاع أسعاره.
يجب أولا، كأجراء سريع وقف هجرة الكفاءات العراقية، وذلك بإزالة الأسباب التي تضطرها لذلك ومن ثم معالجة عودة من هاجر منها معالجة شاملة سياسية واجتماعية- اقتصادية، وأن لا تقتصر على الجوانب المادية فقط. وليس بالضرورة أن تكون العودة دائمة لكل الكفاءات فيمكن أن تكون موسمية، أو وقتية، أو على شكل زيارات عمل، أو لتنفيذ مشاريع علمية مشتركة ( )، أو المشاركة من بلدان إقامتها بجهود التنمية الاجتماعية- الاقتصادية والتطور العلمي في العراق. ويمكن أن تسهم المقترحات التالية في عودة الكفاءات المهاجرة والاستفادة منها.
1- إرساء دعائم الأمن والنظام والاستقرار في عموم العراق وبدون ذلك لا يمكن الحديث عن وقف الهجرة وعودة الكفاءات سواء بشكل دائمي أو وقتي.
2- تأسيس بنك للمعلومات يقوم بجمع البيانات الكافية عن أصحاب الكفاءات وتوثيق شهاداتها وكفاءاتها العلمية والثقافية والفنية والإدارية، ويمكن أن يرتبط هذا البنك أو يدعم من قبل السفارات العراقية.
3- تشكيل لجان تهتم بشؤون عودة الكفاءات في دول المهجر.
4- تشكيل دائرة متخصصة في وزارة التعليم العالي تهتم بأصحاب الكفاءات المهاجرة.
5- عقد مؤتمرات لأصحاب الكفاءات المهاجرة في العراق يمكن أن تنبثق عنها لجان استشارية تساعد وتدعم عمل دائرة الكفاءات.
6- تقوم الدائرة المتخصصة بتنظيم العلاقة بين الكفاءات المهاجرة والجامعات العراقية ومراكز البحث العلمي، ووضع الجداول الزمنية للزيارات والمحاضرات وتنفيذ المشاريع العلمية المشتركة.
7- تقوم الدائرة بتوفير الأعمال لأصحاب الكفاءات في الجامعات ومراكز البحث العلمي والوزارات ومؤسسات الدولة الأخرى وفي المصانع والمؤسسات الإنتاجية والخدمية.
8- تقدير الكفاءات المهاجرة وتثمين دورها في خدمة الوطن وذلك بتوفير مناخ البحث العلمي والأكاديمي وتقديم الحوافز المادية والمعنوية ومستلزمات المعيشة الأخرى وتوفير تسهيلات السفر للمشاركة في المؤتمرات العلمية.
9- عدم ممارسة التمييز السياسي والقومي والديني والطائفي تجاه أصحاب الكفاءات.
10- احتساب سنوات الخدمة في الخارج لأغراض التدرج الوظيفي والتقاعد.( )
11- يجب أن تستفيد من هذه الإجراءات الكفاءات العلمية المحلية أيضاً لكي يكون هناك تفاعل وتعاون بينها وبين الكفاءات المهاجرة ولكي لا تشعر بالغبن والتمييز.
12- الاستفادة من تقنيات التعلم عن بعد لإلقاء محاضرات وتنظيم حلقات دراسية ونشاطات علمية أخرى للكفاءات التي لا تستطيع العودة إلى العراق